سورة الإسراء - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)}
قوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ} وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية {في الكتب} على لفظ الجمع. وقد يرد لفظ الواحد ويكون معناه الجمع، فتكون القراءتان بمعنى واحد. ومعنى {قَضَيْنا} أعلمنا وأخبرنا، قاله ابن عباس: وقال قتادة: حكمنا، واصل القضاء الأحكام للشيء والفراغ منه، وقيل: قضينا أوحينا، ولذلك قال: {إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ}. وعلى قول قتادة يكون {إِلى} بمعنى على، أي قضينا عليهم وحكمنا. وقاله ابن عباس أيضا. والمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. {لَتُفْسِدُنَّ} وقرأ ابن عباس {لَتُفْسِدُنَّ}. عيسى الثقفي {لَتُفْسِدُنَّ}. والمعنى في القراءتين قريب، لأنهم إذا أفسدوا فسدوا، والمراد بالفساد مخالفة أحكام التوراة. {فِي الْأَرْضِ} يريد أرض الشام وبئت المقدس وما والاها. {مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ} اللام في {لَتُفْسِدُنَّ ولَتَعْلُنَّ} لام قسم مضمر كما تقدم. {عُلُوًّا كَبِيراً} أراد التكبر والبغي والطغيان والاستطالة والغلبة والعدوان.


{فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5)}
قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما} أي أولى المرتين من فسادهم. {بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} هم أهل بابل، وكان عليهم بخت نصر في المرة الأولى حين كذبوا إرميا وجرحوه وحبسوه، قاله ابن عباس وغيره.
وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد.
وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بخت نصر فوعى حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال، وهذا في المرة الأولى، فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل، ذكره القشيري أبو نصر. وذكر المهدوي عن مجاهد أنه جاءهم بخت نصر فهزمه بنو إسرائيل، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا. ورواه ابن أبى نجيح عن مجاهد، ذكره النحاس.
وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول: إن المهزوم سنحاريب ملك بابل، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية مائة ألف فارس فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى وأمات جميعهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، وبعث ملك بنى إسرائيل واسمه صديقة في طلب سنحاريب فأخذ مع الخمسة، أحدهم بخت نصر، فطرح في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء ويرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، ثم أطلقهم فرجعوا إلى بابل، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين، واستخلف بخت نصر وعظمت الأحداث في بنى إسرائيل، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا، فجاءهم بخت نصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم.
وقال ابن عباس وابن مسعود: أول الفساد قتل زكريا.
وقال ابن إسحاق: فسادهم في المرة الأولى قتل شعيا نبي الله في الشجرة، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم مرج أمرهم وتنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا وهم لا يسمعون من نبيهم، فقال الله تعالى له قم في قومك أوح على لسانك، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وإنما المقتول شعيا.
وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: {بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ} هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل. وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق، فالله أعلم.
وقيل: إنهم العمالقة وكانوا كفارا، قاله الحسن. ومعنى جاسوا: عاثوا وقتلوا، وكذلك جاسوا وهاسوا وداسوا، قاله ابن عزيز، وهو قول القتبي. وقرأ ابن عباس: {حاسوا} بالحاء المهملة. قال أبو زيد: الحوس والجوس والعوس والهوس: لطواف بالليل.
وقال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار، أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الاخبار أي يطلبها، وكذلك الاجتياس. والجوسان بالتحريك الطوفان بالليل، وهو قول أبى عبيدة.
وقال الطبري: طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين، فجمع بين قول أهل اللغة. قال ابن عباس: مشوا وترددوا بين الدور والمساكن.
وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم، وأنشد لحسان:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد *** فجاس به الاعداء عرض العساكر
وقال قطرب: نزلوا، قال:
فجسنا ديارهم عنوة *** وأبنا بسادتهم موثقينا
{وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا} أي قضاء كائنا لا خلف فيه.


{ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)}
قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} أي الدولة والرجعة، وذلك لما تبتم وأطعتم. ثم قيل: ذلك بقتل داود جالوت أو بقتل غيره، على الخلاف في من قتلهم. {وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ} حتى عاد أمركم كما كان. {وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} أي أكثر عددا ورجالا من عدوكم. والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته، يقال: نفير ونافر مثل قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر كالكليب والمعيز والعبيد، قال الشاعر:
فأكرم بقحطان من والد *** وحمير أكرم بقوم نفيرا
والمعنى: أنهم صاروا بعد هذه الوقعة الأولى أكثر انضماما وأصلح أحوالا، جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8